كم من نساء في زماننا ينقصهن النطاق! يأتزرن به في مواجهة موجات الفساد والانحلال وعواصف العولمة والتغريب، التي باتت تشكل أكبر الخطر على المجتمع، وتجرف معها الصغير والكبير.
ذات النطاقين.. إنه اللقب الذي غلب على الاسم وطغى عليه، أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها السيدة التي روت ثمانية وخمسين حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الفصيحة الشاعرة ذات المنطق والبيان، ابنة الصديق وأخت الطاهرة المبرأة رضي الله عنهما.
وكانت من جوانب عظمتها حسن تعبيرها للرؤيا، كانت تراقب ربها، تقية السريرة، ترى التقصير دوما في نفسها فكانت تصدع فتضع يدها على رأسها، وتقول: "بذنبي وما يغفر الله أكثر".
فأسماء تعنى الهجرة،و التضحية والجهاد، ورمز البذل والصبر و الشجاعة والجرأة في الحق.
اجتهدي أختاه أن تقتدي بأسماء رضي الله عنها، وتعلمي منها كيف تتمسكين بقيمك، وتشدين بالنطاق عزمك، وتعلو همتك.
كوني أسماء وهى بنت في بيت أبيها أبي بكر الصديق صاحب الوسام. الذي تعلمت منه الشجاعة في القول والعمل، والأمانة والرحمة بالضعفاء.
تشاركه الرأي والحديث و تقلده و تذهب مختفية لدار الأرقم مع المسلمات، وتلتقي بهن وتعرف المشكلات وتتابع الأحداث، مهتمة بها وذات همة عالية في التفاعل معها.
أعجبت بقوة إيمان وصبر وتحمل الزبير ابن العوام رضي الله عنه، وكيف يثابر ويدافع عن عقيدته ودينه، أجملت فيه صورة فارس الأحلام، فأحسنت اختيار الزوج صار زوجها حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد المبشرين بالجنة.
نعم الزوج التقي لخير زوجة صالحة يعينها على أمر الدنيا والدين، انظري كيف تحملت مع زوجها ضيق العيش، كانت تشاركه كل شيء، تعلف فرسه، وتكفيه مئونته وتسوسه، تدق النوى.
و تشاركه في تلاوة القراّن وحفظه وفى صلاة الليل، تشجعه وتثبته على الجهاد فهو لم يتخل عن غزوة من غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم، واشترك في الفتوحات في عهد أبي بكر وعثمان وعمر رضي الله عنهم، وهى شهدت تبوك ومع ذلك كانت نعم الأم الراعية لأولادها.
كوني أسماء الأم التي عاشت تقدر المسؤولية فأحسنت أداء التكاليف.
لقد أنجبت خمسة رجال وثلاث بنات، هن: خديجة، و أم الحسن، وعائشة. أما الرجال: عبد الله بن الزبير، اشترك في المعارك وهو في سن الرابعة عشر، وعروة بن الزبير بترت ساقه وهو يصلي، والمنذر. وعاصم والمهاجر.
ربتهم على الشجاعة كانت تقص عليهم أخبار الأبطال المسلمين أمثال حمزة بن عبد المطلب.
علمتهم ركوب الخيل ومزاولة الرماية واللعب بالسيوف، واستخدام الرماح وأن يتقنوا كل عمل.
غرست بذور التقوى والورع، ومراقبة الله فحصدت نجوما نقتدي بها في ظلمات جهالة عصرنا العولمي ونقتفى آثارهم الشامخة لنثبت على الحق والصراط المستقيم.
تعايشي وعيشي مع ذات النطاقين هذا المشهد الذي يمثل أروع الصور للصبر والتصبر والحكمة والتريث
تعلمي من أسماء وهي مسنة عمياء تقارب 100 عام يدخل عليها ابنها عبد الله بن الزبير يا أماه أما ترين؟! قد خذلني الناس وخذلني أهل بيتي!
وقد تغلب عليه الحجاج ودعاه إلى الاستسلام وله ما يريد من المال و الأرض ولكنه أبى وصمم على القتال، وضع أمامه أمرين لا ثالث لهما:
إما النصر و إما الشهادة! فقالت له الأم المربية الواعية بأمور الدنيا والدين:"لا يلعبن بك صبيان بني أمية، عش كريمًا ومت كريمًا والله أنت أعلم بنفسك.
وإن كنت على حق وتدعو إلى حق؛ فاصبر عليه فقد قتل أصحابك عليه، وان أردت الدنيا فلبئس العبد أنت أهلكت نفسك و أهلكت من معك".
"كم خلودك في الدنيا؟ القتل أحسن! والله لضربة سيف وعز، خير من ضربة سوط في مذلة"
قال عبد الله: أخاف يا أماه إن مت أن يمثلوا بجسدي!
قالت أسماء كلمتها المشهورة الخالدة: "لا يضر الشاه سلخها بعد ذبحها".
دنا عبد الله منها وقبلها في جبينها، وقال: هذا والله رأيي، ولكنى أحببت أن أعلم رأيك فزدتني بصيرة.
وحين أمر الحجاج بأن يصلب ابن الزبير في جذع نخلة، ولما رأته مصلوبًا قالت:"أما اّن لهذا الفارس أن ينزل" فقال الحجاج: تقصدين المنافق يا بنت الصديق؟
أجابت على الفور:لا والله ما كان منافقًا ولكنه رضي الله عنه كان صوامًا بالنهار، قوامًا بالليل، برا بوالديه وبالمسلمين.
وعندما أرسل لها الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان أرسل لها الحجاج، وقال لها يا أماه إن الخليفة أوصاني بك، فأجابت بنت أبى بكر رضي الله عنه: "لست لك بأم، إنما أنا أم المصلوب على الثنية ومالي لك بحاجة.
وعاد الحجاج لطبيعته القاسية فقال لها: كيف رأيتني فعلت بعدو الله؟ فأجابت على الفور رضي الله عنها: "رأيتك أفسدت عليه دنياه وأفسد عليك اّخرتك".
وأمام صلابتها وقوة إيمانها وثقتها بما عند الله أمر الحجاج بإنزال جسم ابن الزبير، ليضيف وسام إلى أوسمة التكريم والشرف لهذه القدوة الحسنة الحائزة على لقب ذات النطاقين رضي الله عنها وأرضاها.
إن سيرة أسماء تؤكد أن النطاق الذي انتطقت به، لم يكن مجرد قماشة شدت بها وسطها، وإنما هو نطاق من الإيمان واليقين، يقوى الظهر لتحمل الأعباء اليومية. نطاق يشد الاّزر فتهون مصائب الدنيا أمام نعيم الاّخرة. فما أحوجنا لهذا النطاق!
هوني عليك واسعي أن تمتلكي ثمن هذا النطاق الذي فيه راحتك البدنية والنفسية. اجمعي ثمنه بكثرة شكرك في النعماء، و بجميل صبرك عند البلاء!
توفيت ذات النطاقين بمكة بعد مقتل ابنها، ولها مائة سنة، ولم يسقط لها سن، ولم يغب لها عقل، وعطر سيرتها الفواح ينتشر في الأرض مع كل إطلالة لعام هجري جديد.
الكاتب: أماني داود
المصدر: موقع لها أون لاين